أبعاد ثلاثة متَّحدة فيما بينها هي حياتنا المسيحيَّة، الله والآخر والذات. والعودة إلى الذات هي التقاء بالربِّ، وتترجم محبَّة لا مشروطة تجاه الآخر، فلا محبَّة للَّه من دون الآخر.
لهذا تقرأ الكنيسة في الأحد الثالث من زمن التريودي مقطعًا من إنجيل متَّى يعرف بإنجيل الدينونة. يخبرنا يسوع فيه أنَّ فرز الخراف عن الجداء يتمُّ على أساس المحبَّة الَّذي نقدِّمه تجاه الآخرين مؤكِّدًا لنا الربُّ أنَّ الآخر هو يسوع.
ولكون كلِّ واحد منَّا تجاه الآخر هو الآخر، فنكون عندها جميعًا واحدًا بالربِّ يسوع المسيح.
وأمام المحبَّة الَّتي يدعونا إليها يسوع يسقط كلُّ شيء، الألقاب والمقامات والمراكز والممتلكات والطبقات الاجتماعيَّة والمستويات، وكلُّ شيء. كلُّها لا تنفعنا بشيء إن لم نوظِّفها بالمحبَّة الَّتي تنزل علينا من فوق، من لدن العليِّ.
الشعور بالآخر هو الشعور بالمسيح، إنَّه الحسُّ وفاقد الحسِّ عائش في سجن الأنا. وهنا الجحيم. الأنا هي الجحيم، جحيم الأنا الَّذي يريد أن يفترس كلَّ شيء ولا يشبع.
وجحيم الأنا هي العبوديَّة، ويمسي صاحبها عبدًا، ويتلذَّذ في استعباد الآخرين، لأنَّ العبد يمقت الحرِّيَّة وكلَّ من هي ملاذه.
في وسط هذا الظلام القاتم والبهيميِّ يدوِّي صوت الربِّ قائلًا لكلِّ فرد منَّا:
خلقتُك يا إنسان ابنًا حرًّا، وعندما انصعت إلى عدُوِّك الوحيد إبليس، وسمحت له بأن يستعبدك، شطرتَ قلبي، لكنِّي لم أتركك وحيدًا بل أتيت إليك متجسِّدًا، ونزعت المسامير الَّتي سمَّرك بها الشيطان على الصليب، وقبلتُ طوعًا أن أُصلَب مكانك، ونزلت إلى قعر الجحيم وحرَّرْتُك من سلطته وسطوته، وأقمتُك ورفعتُك بيدي وضممتُك إلى صدري وأعطيتُك من جديد مجد البُنُوَّة الَّذي لا يفنى. فما بك تعود ثانية إلى السجن القديم مقيَّدًا بسلاسل الأهواء المعيبة وثقل الخطايا المميتة؟ اخرُج وتحرَّر فعندك السلطان الكافي لذلك باتِّحادك بي. وما عليك إلَّا أن تصرخ تائبًا: «افتح لي أبوابَ التوبة يا واهبَ الحياة» لتجد نفسك حرًّا طليقًا تستدفئ في حضني الدافئ ثانية، وتعود إلى الحياة مجدَّدًا لابسًا حلَّة المجد الأولى، وتستعيد خاتم بنُوَّتك، وتجلس على مائدتي، مائدة الحمل الفصحيِّ المذبوح من أجلك. وكُلْ واملأ جوفك منه واستطعِم بحلاوته، وافرح مع المرنِّمين من البشر والملائكة.
هذا تمامًا ما يدعونا الربُّ إليه في كلِّ محطَّة من زمن التريودي البهيِّ. ولأنْ لا موت مع المسيح، بل رُقاد وانتقال، يأتي سبت الراقدين قبل أحد الدينونة الَّذي هو أحد مرفع اللحم، لنصلِّي مع الَّذين سبقونا ورقدوا.
نصلِّي معهم ولهم، فالصلاة لا يفصلُها الموت الجسديُّ، والصلاة من أجل الراقدين هي من جوهر الإيمان المسيحيِّ كما قال الربُّ وأكَّد للفرِّيسيِّين: «أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب! ليس الله إله أموات بل إله أحياء» (متَّى 22: 32).
وهذا أيضًا ما تدلُّ عليه النصوص الكتابيَّة والليتورجيَّة وكتابات الآباء القدِّيسين، وظاهر في الفنِّ الكنسيِّ على النواقيس والأضرحة المسيحيَّة منذ البداية، وعلى الجداريَّات القديمة منذ القرون الأولى. فقد وعت الجماعة المسيحيَّة منذ انطلاقتها أنَّنا جميعًا «مسكن للَّه في الروح» (أفسس 2: 22)، ونحن نرقد ولا نموت كما قال يسوع: «أنا هو القيامة والحياة. مَن آمن بي ولو مات فسيحيا» (يوحنَّا 11: 25).
صحيح أنَّ هناك سبتَين في السنة الليتورجيَّة يُدعيان سبت الراقدين، إلَّا أنَّ الصلاة من أجل راقدينا هي يوميَّة، ويذكرهم الكاهن في صلاة السحر وهو يحضِّر الذبيحة على المذبح، وأيضًا نذكرهم في القدَّاس الإلهيِّ.
ذكرنا آنفًا سبت الراقدين الأوَّل، أمَّا السبت الثاني فيأتي قبل أحد العنصرة المقدَّس مباشرة.
الأوَّل مرتبط بأحد الدينونة طالبين الرحمة لهم، وأيضًا لكي نعي أنَّنا سنقف بدورنا أمام الربِّ العادل وتُكشف أعمالنا وكلُّ مستورات قلوبنا وخفاياها. فكلُّ لحظة حياة هنا على الأرض هي فرصة للتوبة والعودة إلى مخلِّصنا.
أمَّا السبت الَّذي يسبق العنصرة فهو مرتبط بالروح القدس المحيي والمقدَّس الَّذي أرسله الربُّ إلينا: «ثمَّ بما أنَّكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: يا أبا الآب» (غلاطية 4: 6).
كلُّ هذا الترابط الليتورجيِّ الجميل والمنتاسق هدفه واحد: خلاص الإنسان، لنسير قدمًا بتوبة صادقة مشتركين في الصلوات للنهوض من سقطاتنا، قائمين مع قيامة السيِّد.
إلى الربِّ نطلب.